ما قصَّة قصيدة صوت صفير البلبل؟
- يُحكى أنَّ الخليفةَ العباسي أبا جعفر المنصور كان من أدهى الخلفاء وأذكاهم، وقد وهبه الله تعالى ذاكرةً قويةً وقدرةً عالية على الحفظ، مما جعله يحتال على الشعراء، ويتحدّاهم بأن يأتي أحدٌ منهم بقصيدة جديدة لم يسمعها من قبل، على أن يُقدّم مكافأة لكل قصيدة لم يسمعها من قبل، وتمثّل المكافأة في وزن القصيدة ذهبًا، فقدم إليه عدد من الشعراء بقصائدهم، وبعد أن يلقوها على الخليفة يقول لهم بأنّه سمعها من قبل ويعيدها عليهم، ويحضر خادمه وجاريته ليعيدوا القصيدة من بعده كذلك، مما جعل الشعراء يصابون بالذهول؛ لأنّهم قد ألفوا قصائدهم حديثًا.1
- سمع الأصمعي -وكان من الشعراء المعروفين في ذلك العصر- بما يفعله الخليفة مع الشعراء، وعلم أنّ في الأمر حيلةً ومكيدةً؛ فأعدَّ قصيدةً منوعة الكلمات وغريبة المعاني، وتنكّر الأصمعي بلباس الأعراب وتلثّم؛ حيث إنّه كان معروفًا لدى أبي جعفر المنصور، ودخل عليه، فقال له إنّ لديه قصيدةً لا يعتقد أنّ الخليفة سمعها من قبل، ويود أن يلقيها عليه، فقال له الخليفة هات ما عندك، فألقى الأصمعي القصيدة.1
- سمع أبو جعفر المنصور القصيدة وتعجّب؛ فقد كان يحفظ القصيدة من المرة الأولى التي يسمعها فيها، والخادم من المرة الثانية والجارية من المرة الثالثة، أما هذه القصيدة، فلم يتمكّن من حفظها؛ لأنَّها كانت منوعة الكلمات والمعاني، وسأل الخادم والجارية؛ فأخبراه أنّهما لم يسمعا بها من قبل؛ فقال الخليفة للأصمعي أحضر ما كتبتها عليه لنزنه ونعطيك وزنه ذهبًا.1
- فأخبره أنَّه ورث من أبيه عامودًا من رخام لا يحمله إلا عشرة من الجند، وقد كتبها عليه، فأحضروه فوزن صندوق ذهب، فشكَّ الخليفة أنَّه الأصمعي، فطلب منه أن يزيل لثامه، فأزاله فإذا به الأصمعي، فقال له: أتفعل هذا بخليفة المسلمين؟ فأجابه الأصمعي الخليفةَ بأنّه بحيلته قطع رزق الشعراء، فطلب منه الخليفة إعادة المال، فاشترط الأصمعي مقابل إعادة المال أن يعطي الخليفة للشعراء مقابل ما كتبوه، فاستجاب أبو جعفر المنصور لطلب الأصمعي.1
كلمات قصيدة صوت صفير البلبل
يقول الأصمعي:2
صَوتُ صَفِيرِ البُلبُلِ ::: هَيَّجَ قَلبِي الثَّمِلِ
الماءُ وَالزَهرُ مَعًا ::: مَع زَهرِ لَحظِ المُقَلِ
وَأَنتَ يا سَيِّدَ لِي ::: وَسَيِّدِي وَمَولى لِي
فَكَم فَكَم تَيَمَّنِي::: غُزَيِّلٌ عَقَيقَلي
قَطَّفتَهُ مِن وَجنَةٍ ::: مِن لَثمِ وَردِ الخَجَلِ
فَقالَ لا لا لا لا لا ::: وَقَد غَدا مُهَرولِ
وَالخُوذُ مالَت طَرَباً ::: مِن فِعلِ هَذا الرَجُلِ
فَوَلوَلَت وَوَلوَلَت ::: وَلي وَلي يا وَيلَ لِي
فَقُلتُ لا تُوَلوِلي::: وَبَيّني اللُؤلُؤَ لَي
قالَت لَهُ حينَ كَذا ::: اِنهَض وَجد بِالنقَلِ
وَفِتيةٍ سَقَونَنِي ::: قَهوَةً كَالعَسَلَ لِي
شَمَمتُها بِأَنَفي ::: أَزكى مِنَ القَرَنفُلِ
فِي وَسطِ بُستانٍ حُلِي ::: بِالزَهرِ وَالسُرورُ لِي
وَالعُودُ دَندَن دَنا لِي ::: وَالطَبلُ طَبطَب طَبَ لِي
طَب طَبِطَب طَب طَبَطَب ::: طَب طَبَطَب طَبطَبَ لِي
وَالسَقفُ سَق سَق سَق لِي ::: وَالرَقصُ قَد طابَ لِي
شَوى شَوى وَشاهشُ ::: عَلى حِمارِ أَهزَلِ
يَمشِي عَلى ثَلاثَةٍ ::: كَمَشيَةِ العَرَنجلِ
وَالناسِ تَرجم جَمَلِي ::: فِي السُواق بِالقُلقُلَلِ
وَالكُلُّ كَعكَع كَعِكَع ::: خَلفي وَمِن حُوَيلَلي
لَكِن مَشَيتُ هارِباً ::: مِنْ خَشْيَةِ العَقَنْقِلِي
إِلَى لِقَاءِ مَلِكٍ ::: مُعَظَّمٍ مُبَجَّلِ
يَأْمُرُلِي بِخَلْعَةٍ ::: حَمراء كَالدَم دَمَلي
أَجُرُّ فيها ماشِياً ::: مُبَغدِداً لِلذِيِّلِ
أَنا الأَدِيبُ الأَلمَعِي ::: مِن حَيِّ أَرضِ المُوصِلِ
نَظِمتُ قِطعاً زُخرِفَت ::: يَعجزُ عَنها الأَدبُ لِي
أَقولُ فَي مَطلَعِها ::: صَوتُ صَفيرِ البُلبُلِ
الأصمعي صاحب قصيدة صوت صفير البلبل
اسمه ونشأته
هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع المعروف بالأصمعي الباهلي، ويرجع نسبه إلى عدنان، ونُسِبَ الأصمعي إلى جدّه أصمع فلقِّبَ بالأصمعي، ويقال: رجلٌ أصمع إذا كان ذكي حديد الفؤاد، ولد سنة 123 هـ، وقيل 122 وقيل 125، وعاش في بيتٍ ناءٍ متواضعٍ في البصرة. 3
شعر الأصمعي وعلمه
تعلَّم الأصمعي الكتابة والقرآن لمّا بلغ السادسة من عمره في أحد الكتاتيب التي كانت شائعةً ومنتشرةً في عصره، حيثُ سطع نجمه في حيِّ بني أصمع في البصرة، وتأثَّر بوالده فأخذ عنه الرواية والقصَّة، كانَ مُحبّاً للشعر، تستمع أمه إليه لتمتحن ذكاءه، فيذكر عن نفسه أنَّه حفظ اثني عشر ألف أرجوزة (قصيدة من بحر الرجز) قبل أن يبلغ الحُلم، وقدَّمه والده إلى أبي عمرو بن العلاء علّامة عصره في اللغة، وأحد شيوخ مجلس البصرة، ثمَّ عرف أبا محرز -أحد علماء اللغة والنحو- وكان لا يفارقه في المسجد الجامع، ويرتاد سوق المربد الثقافي، فيستمع لما يجري من مناظرات ومساجلات، ثمَّ يعود إلى أستاذه أبي محرز ليسأله عن رأيه فيما يسمع.3
وبالإضافة إلى اهتمام الأصمعي بالشعر والأدب، فقد برع في اللغة والنحو، وكان واسع الثقافة والاطّلاع، وألّف العديد من الكتب في مجالات مختلفة منها النسب، والنوادر، والشعر، ونوادر الأعراب، والتاريخ وغيرها.3
المراجع
- ^ أ ب ت ث عظمى فريح، دراسة بنيوية عن شعر صوت صفير البلبل للأصمعي، صفحة 26-27. بتصرّف.
- “صوت صفير البلبل”، ديوان، اطّلع عليه بتاريخ 22/2/2022.
- ^ أ ب ت مصطفى فؤاد أبو عواد، الأصمعي والمعجمية العربية، صفحة 4-7. بتصرّف.